سعد خلف يكتب: خمسون يومًا من ترامب.. اختبار أعصاب أم فرصة أخيرة قبل الانفجار؟

سعد خلف يكتب: خمسون يومًا من ترامب.. اختبار أعصاب أم فرصة أخيرة قبل الانفجار؟
منذ إطلاق الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مبادرته الجديدة المتعلقة بالحرب فى أوكرانيا، يوم الاثنين ١٤ يوليو (تموز) ٢٠٢٥، التى منح فيها بوتين مهلة زمنية مدتها خمسون يومًا للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، بدا المشهد وكأنه يدخل مرحلة يمكن وصفها بمرحلة التحكم المدروس فى التصعيد، بحيث تعاد خلالها برمجة خطوط التماس، وموازين الدعم، وتوقيتات التفاوض، مع الأخذ فى الحسبان التوازنات الداخلية الدقيقة لكل طرف من أطراف الصراع، أى روسيا، وأوكرانيا ومن ورائها الأوربيون، فضلًا عن الولايات المتحدة.

ولكن إذا ابتعدنا عن اللغة الدبلوماسية، فإن السؤال الجوهرى- من وجهة نظرى- الذى يطرح نفسه على كل من يتابع هذا الملف هو: هل نحن بالفعل أمام محاولة أمريكية جادة لإنهاء الحرب؟ أم أننا أمام مناورة سياسية- ترامبية- تهدف إلى إعادة تشكيل مشهد ما بعد الصيف بما يضمن مصالح واشنطن الإستراتيجية، ويُبقى موسكو فى حالة استنزاف، لكن لا تصل إلى حد الانفجار؟

قد يبدو لمن يقرأ خطاب ترامب الأخير بشأن الحرب الروسية- الأوكرانية، وتفسيراته المستمرة للإعلام له - أقول قد يبدو- وكأنه يحمل لهجة متشددة حاسمة، فهو يمنح: مهلة محددة، ويهدد بعقوبات جمركية، ويحذر زيلينسكى من استهداف موسكو، ويحمل الطرفين -أى بوتين وزيلينسكى- المسؤولية الكاملة.

لكننى أعتقد أن بإمكاننا فى العمق قراءة هذا الخطاب الترامبى بوصفه صيغة اختبارية مرنة، تسعى إلى ما يمكن تسميته بـ«إدارة فوقية من أعلى للنزاع» بدلًا من حله، وهذا أستشفه من طبيعة إدراة ترامب للأمور منذ ولايته الأولى.

الرئيس الأمريكى لا يُخفى خيبة أمله فى بوتين، وهذا ما يقوله، لكنه فى الوقت نفسه يرفض الهجوم المباشر عليه، كما كان بايدن يفعل. ترامب يصف بوتين بأنه رجل قوى، ويقول: بوتين خدع كل الرؤساء الأمريكيين السابقين، لكنه مع ذلك -أى ترامب- لا يزال يعتقد أن بإمكانه التفاهم معه بشروط أكثر «أمريكية»، أى من موقع قوة لا منطق الشراكة، على طريقة الجنوب الأمريكى كما يقال.

وبين هذا وذاك، تظهر حسابات ترامب الخاصة، فهو لا يريد أن يبدو كمن يكافئ بوتين وموسكو، ولا أن يظهر كذلك كمن يدعم زيلينسكى، دون حدود كبايدن؛ لذلك فإن منح مهلة زمنية خمسين يومًا بدلًا من اتخاذ إجراءات فورية، تعكس - فى رأيى- رغبة الرئيس الأمريكى فى مسك هذا التوازن الدقيق الذى يسعى إليه بين القوة الملوحة والحل الممكن.

أما فى موسكو، فحسبما أتابع، لا يبدو أن مبادرة ترامب قد قوبلت بحالة من الرفض، بل على العكس، هناك ما يشبه حالة «الانتباه» تجاه ما يمكن أن تفضى إليه هذه المهلة، لكن دون التسرع فى إصدار أحكام، أو اتخاذ مواقف قاطعة.

فوزير الخارجية سيرجى لافروف، فى تعليقه من بكين، حيث كان يحضر اجتماعات منظمة شنغهاى، ويُحضِّر لزيارة بوتين المرتقبة إلى العاصمة الصينية نهاية أغسطس (آب) المقبل، تساءل علنًا عن خلفية الرقم «خمسين» يومًا، متسائلًا عما إذا كان الأمر يتعلق فعليًّا بإرادة تسوية، أم بإعادة توزيع أدوار، وهو يقصد -حسبما فهمت- ما قام به ترامب، الذى أوكل مهمة تنسيق التسليح إلى حلف الناتو، وترك لأوروبا تمويل الحصة الأكبر، إن لم يكن كل تكاليف التسليح الأوكرانى القادم.

الموقف الروسى بدا أيضًا منتبهًا لما وصفه نائب لافروف، ألكسندر غروشكو، وهو من صقور الخارجية الروسية حاليًا، ما وصفه بـ«الطابع الغريب» للمهلة الترامبية، فى ظل غياب أى ضغط أمريكى على أوكرانيا للعودة إلى المفاوضات، واستكمال مسار إسطنبول الجديد مثلًا.

جروشكو اعتبر أن تفويض التسليح للناتو هو دليل إضافى على أن دول الحلف غير معنية أصلًا بالسلام، بل تسعى إلى تثبيت «توازن استنزاف» دائم بين موسكو وكييف، ضمن إستراتيجية احتواء مزدوجة.

واللافت كذلك - من واقع متابعتى- أن أوكرانيا -الطرف المعنى مباشرة بمهلة ترامب- لم تبدِ أى موقف رسمى تجاهها -حتى الآن على الأقل- سواء بالترحيب أو الرفض، أو حتى الاستفهام؛ بل اكتفى الجانب الأوكرانى بإشارات إعلامية غير مباشرة تظهر أن كييف لا ترى نفسها معنية بفشل المفاوضات، بل لا تخشى تحميلها مسؤولية ذلك، وهى هنا بالطبع تعتمد مجددًا على الدعم الغربى الأوروبى غير المشروط.

وهذا التجاهل الأوكرانى يعكس- من وجهة نظرى- قناعة متزايدة داخل كييف بأن واشنطن، رغم تصريحات ترامب، لن تجبرها على تقديم تنازلات، وأن تهديدات العقوبات التى أعلنها ترامب موجهة فعليًّا إلى روسيا وشركائها، وليس لها -أى كييف- وهذا - حسبما أعتقد- هو ما يفسر- ولو جزئيًّا- السبب وراء تعثر الجولة الثالثة المحتملة والمرتقبة من مفاوضات إسطنبول، خاصةً فى ضوء تأكيد الكرملين- أكثر من مرة علنًا- استعداده لمواصلة هذا الحوار.

نقطة أخرى تحتاج - فى رأيى- إلى لفت الانتباه إليها، بما أن كل ما نكتبه هو تحليل لمعطيات، وليس نقلًا لمعلومات؛ فأحد التسريبات الأمريكية التى نُشرت مؤخرًا أشار إلى أن بوتين قد أبلغ ترامب خلال مكالمتهما الهاتفية الأخيرة، يوم ٣ يوليو (تموز) ٢٠٢٥، بنيته شن هجوم صيفى واسع يهدف إلى تحسين الوضع الميدانى قبل أى تسوية. وبالنظر إلى التوقيت الزمنى للمهلة الترامبية، يمكن القول إن ترامب تعمّد منح بوتين الفرصة الزمنية؛ بمنح موسكو «نافذة غير معلنة» لتحقيق بعض الأهداف الميدانية، التى يحتاج إليها بوتين بشدة، كالسيطرة الكاملة على مقاطعة دونيتسك تحديدًا، قبل أن يدخل المسار مجددًا فى قنوات سياسية مضبوطة.

هذا التفسير للمهلة الترامبية قد يفسر أيضًا الانفراج النسبى فى البورصة الروسية، وفى تعامل الأسواق الروسية مع إعلان ترامب، فقد ارتفعت مؤشرات البورصة، بعدما جُمِّدَ مشروع العقوبات الأشد، فى حين فتحت المهلة الزمنية أفقًا للمراوغة السياسية، لا للمواجهة المباشرة.

ومع ذلك، تبقى هناك منطقة غموض خطيرة فى هذه العملية برمتها، وأقصد بها ملف التسليح؛ ففى سياق هذه المهلة، لا يقل حجم التسليح المزمع توريده إلى أوكرانيا خلالها خطورة عن البعد السياسى، هذا إن تم بالفعل طبعًا، فترامب أعلن تسليم ١٧ منظومة «باتريوت»، لكن من واقع ما قرأته من تحليلات عسكرية لخبراء محترمين، يبدو أن الحديث يدور عن منصات الإطلاق، وليس البطاريات الكاملة. كما رافق ذلك أيضًا حديث غير مؤكد عن استئناف توريد صواريخ «أتاكمز» البعيدة المدى، التى سبق استخدامها لاستهداف أهداف داخل أراضى روسيا المعترف بها دوليًّا.

لكن الخطر الأكبر على روسيا -حسب هذه التحليلات العسكرية- يتمثل فى صواريخ (JASSM-ER)، التى يمكن إطلاقها من مقاتلات «إف-١٦»، التى يتراوح مداها من ٣٠٠ إلى ٩٠٠ كم، فتوريد هذه الصواريخ إلى أوكرانيا سوف يمثل نقلة نوعية فى مستوى التهديد الإستراتيجى، خاصة أنها تُصنّع بتقنيات «ستيلث»؛ ولذلك يصعب رصدها راداريًّا، حسبما يقول الخبراء العسكريون. فضلًا عن ذلك، فإن حمولتها التدميرية تصل إلى ٤٥٠ كيلوغرامًا، لكن ترامب -حتى الآن على الأقل- لم يوافق على تسليمها إلى أوكرانيا.

لذلك، وفى ظل هذا الغموض، تبقى التساؤلات قائمة عن جدية ترامب فى ضبط سقف التسليح الموجه إلى كييف، أو -على العكس- نيته استخدام هذا الملف كورقة ضغط إضافية على بوتين.

وسؤال آخر مهم: ماذا لو لم تفضِ المهلة إلى نتيجة؟ هل سوف تندفع واشنطن نحو تطبيق رسوم جمركية بنسبة ١٠٠٪ على روسيا وشركائها التجاريين؟

من الواضح أن هذا الخيار يحمل فى طياته تعقيدات سياسية واقتصادية سيكون من الصعب تجاوزها، خاصةً مع استمرار اعتماد الولايات المتحدة على واردات روسية فى مجالات حرجة مثل اليورانيوم، والتيتانيوم، والأسمدة، بل أهم من ذلك، أن تطبيق هذه العقوبات قد يخلق توترًا إضافيًّا لواشنطن مع قوى كبرى، كالصين، والهند، ودول الخليج العربى، وهم جميعًا شركاء تجاريون لموسكو، ولواشنطن أيضًا فى آن معًا، وهذا -فى اعتقادي- ما يُفسر -إلى حد كبير- تمسك إدارة ترامب بخطاب مزدوج: التلويح بالعقوبات، مع الحفاظ على الاستثناءات (غير المعلنة طبعًا)؛ لمنع ارتداد العقوبات على الداخل الأمريكى، وهو ما لا يحتاج إليه ترامب، خاصةً قبل انتخابات التجديد النصفى العام المقبل.

إذن، ما الحكاية؟

أرى أن ما تظهره مبادرة ترامب الأخيرة هو أن الولايات المتحدة بقيادة هذا الرجل لا تبحث عن نصر لأوكرانيا؛ بل عن مخرج من الحرب، لا يبدو فيه بوتين منتصرًا، وهذا ما يفسر التلويح بتجميد الصراع على خطوط التماس، وليس إنهاءه بالكامل، وهو خيار ترامب ومبعوثه الخاص كيلوج، لكنه يصطدم بحسابات موسكو، التى لم تكمل بعد أجندتها العسكرية الصيفية.

* باحث وإعلامى متخصص فى الشأن الروسى

ينشر بالتعاون مع مركز الدراسات العربية الأوراسية
إقرأ الخبر الكامل من المصدر